فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (59):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نهى سبحانه عن أذى المؤمنات، وكانت الحرائر بعيدات عن طمع المفسدين لما لهن في أنفسهن من الصيانة وللرجال بهن من العناية، وكان جماعة من أهل الريبة يتبعون الإماء إذا خرجن يتعرضون لهن للفساد، وكان الحرائر يخرجن لحاجتهن ليلًا، فكان ربما تبع المرأة منهن أحد من أهل الريب يظنها أمه أو يعرف أنه حرة ويعتل بأنه ظنها أمه فيتعرض لها، وربما رجع فقال لأصحابه: فعلت بها- وهو كاذب، وفي القوم من يعرف أنها فلانة، فيحصل بذلك من الأذى ما يقصر عنه الوصف، ولم يكن إذ ذاك كما نقل عن مقاتل فرق بين الحرة والأمة كن يخرجن في درع وخمار وكان اتسام الحرائر بأمارة يعرفن بها ليهبن ويتحشمن يخفف هذا الشر، قال تعالى: {يا أيها النبي} فذكره بالوصف الذي هو منبع المعرفة والحكمة، لأن السياق لحكمة يذب بها عن الحريم لئلا يشتغل فكره صلى الله عليه وسلم بما يحصل لهن من الأذى عن تلقي شيء من الواردات الربانية {قل لأزواجك} بدأ بهن لما لهن به من الوصلة بالنكاح {وبناتك} ثنى بهن لما لهن من الوصلة ولهن في أنفسهن من الشرف، وأخرهن عن الأزواج لأن أزواجه يكفونه أمرهن {ونساء المؤمنين يدنين} أي يقربن {عليهن} أي على وجوهن وجميع أبدانهن فلا يدعن شيئًا منها مكشوفًا {من جلابيبهن} ولا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا خرجن لحاجتهن بكشف الشعور ونحوها ظنًا أن ذلك أخفى لهن وأستر، والجلباب القميص، وثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة، والملحفة ما ستر اللباس، أو الخمار وهو كل ما غطى الرأس، وقال البغوي: الجلباب: الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقال حمزة الكرماني: قال الخليل: كل ما تستتر به من دثار وشعار وكساء فهو جلباب، والكل يصح إرادته هنا، فإن كان المراد القميص فإدناؤه إسباغه حتى يغطي يديها ورجليها، وإن كان ما يغطي الرأس فادناؤه ستر وجهها وعنقها، وإن كان المراد ما يغطي الثياب فادناؤه تطويله وتوسيعه بحيث يستر جميع بدنها وثيابها، وإن كان المراد ما دون الملحفة فالمراد ستر الوجه واليدين.
ولما أمر بذلك علله بقوله: {ذلك} أي الستر {أدنى} أي أقرب من تركه في {أن يعرفن} أنهن حرائر بما يميزهن عن الإماء {فلا} أي فيتسبب عن معرفتهن أن لا {يؤذين} ممن يتعرض للإماء.
فلا يشتغل قلبك عن تلقي ما يرد عليك من الأنباء الإلهية.
ولما رقاهم سبحانه بهذا الأمر في حضرات الرضوان، خافوا عاقبة ما كانوا فيه من الغلط بالتشبه بالإماء، فأخبرهم سبحانه أنه في محل الجود والإحسان، فقال: {وكان الله} أي الذي له الكمال المطلق، أزلًا وأبدًا {غفورًا} أي محاء للذنوب عينًا وأثرًا {رحيمًا} مكرمًا لمن يقبل عليه ويمتثل أوامره ويحتنب مناهيه، قال البغوي: قال أنس رضى الله عنه: مرت بعمر بن الخطاب رضى الله عنه جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال: يا لكاع! أتتشبهين بالحرائر؟ ألقي القناع. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}.
لما ذكر أن من يؤذي المؤمنين يحتمل بهتانًا وكان فيه منع المكلف عن إيذاء المؤمن، أمر المؤمن باجتناب المواضع التي فيها التهم الموجبة للتأذي لئلا يحصل الإيذاء الممنوع منه.
ولما كان الإيذاء القولي مختصًا بالذكر اختص بالذكر ما هو سبب الإيذاء القولي وهو النساء فإن ذكرهن بالسوء يؤذي الرجال والنساء بخلاف ذكر الرجال فإن من ذكر امرأة بالسوء تأذت وتأذى أقاربها أكثر من تأذيها، ومن ذكر رجلًا بالسوء تأذى ولا يتأذى نساؤه، وكان في الجاهلية تخرج الحرة والأمة مكشوفات يتبعهن الزناة وتقع التهم، فأمر الله الحرائر بالتجلبب.
وقوله: {ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} قيل يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن ويمكن أن يقال المراد يعرفن أنهن لا يزنين لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها فيعرفن أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن.
وقوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} يغفر لكم ما قد سلف برحمته ويثيبكم على ما تأتون به راحمًا عليكم. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتِك وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}.
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْجِلْبَابُ الرِّدَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ يَتَجَلْبَبْنَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ وَلَا يَعْرِضُ لَهُنَّ فَاسِقٌ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} قَالَ: تَقَنَّعَ عُبَيْدَةَ وَأَخْرَجَ إحْدَى عَيْنَيْهِ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كُنَّ إمَاءٌ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُنَّ: كَذَا وَكَذَا يَخْرُجْنَ فَيَتَعَرَّضُ لَهُنَّ السُّفَهَاءُ فَيُؤْذُوهُنَّ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تَخْرُجُ فَيَحْسِبُونَ أَنَّهَا أَمَةٌ فَيَتَعَرَّضُونَ لَهَا فَيُؤْذُونَهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنَاتِ أَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: تُغَطِّي الْحُرَّةُ إذَا خَرَجَتْ جَبِينَهَا وَرَأْسَهَا خِلَافَ حَالِ الْإِمَاءِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي خيثم عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} خَرَجَ نِسَاءٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنْ أَكْسِيَةٍ سُودٍ يَلْبَسْنَهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ مَأْمُورَةٌ بِسَتْرِ وَجْهِهَا عَنْ الْأَجْنَبِيِّينَ وَإِظْهَارِ السِّتْرِ وَالْعَفَافِ عِنْدَ الْخُرُوجِ لِئَلَّا يَطْمَعَ أَهْلُ الرِّيَبِ فِيهِنَّ.
وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا سَتْرُ وَجْهِهَا وَشَعْرِهَا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَنِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ} ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ الْحَرَائِرَ، وَكَذَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ، لِئَلَّا يَكُنَّ مِثْلَ الْإِمَاءِ اللَّاتِي هُنَّ غَيْرُ مَأْمُورَاتٍ بِسَتْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَجَعَلَ السِّتْرَ فَرْقًا يُعْرَفُ بِهِ الْحَرَائِرُ مِنْ الْإِمَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ الْإِمَاءَ وَيَقُولُ: اكْشِفْنَ رُءُوسَكُنَّ وَلَا تَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتِك وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مُخْتَرِمَةٍ بَيْنَ أَعْلَاجٍ قَائِمَةٍ بِسُوقِ بَعْضِ السِّلَعِ، فَجَلَدَهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَلَدَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ رَآهُ مِنِّي، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى جَلْدِ ابْنَةِ عَمِّك؟ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، فَقَالَ: وَابْنَةُ عَمِّي هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكَرْتهَا إذْ لَمْ أَرَ عَلَيْهَا جِلْبَابًا فَظَنَنْتهَا وَلِيدَةً فَقَالَ النَّاسُ: الْآنَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا.
قَالَ عُمَرُ: وَمَا نَجِدُ لِنِسَائِنَا جَلَابِيبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتِك وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِلْبَابِ عَلَى أَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ، عِمَادُهَا أَنَّهُ الثَّوْبُ الَّذِي يُسْتَرُ بِهِ الْبَدَنُ، لَكِنَّهُمْ نَوَّعُوهُ هَاهُنَا، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ الرِّدَاءُ.
وَقِيلَ: إنَّهُ الْقِنَاعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} قِيلَ: مَعْنَاهُ تُغَطِّي بِهِ رَأْسَهَا فَوْقَ خِمَارِهَا.
وَقِيلَ: تُغَطِّي بِهِ وَجْهَهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهَا إلَّا عَيْنُهَا الْيُسْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي تَنْوِيعِهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا السِّتْرَ وَالْحِجَابَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرِينَةُ الَّتِي بَعْدَهُ، وَهِيَ مِمَّا تُبَيِّنُهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَسْلُبُ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِتَارِ، فَدَلَّ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَمْيِيزَهُنَّ عَلَى الْإِمَاءِ اللَّاتِي يَمْشِينَ حَاسِرَاتٍ، أَوْ بِقِنَاعٍ مُفْرَدٍ، يَعْتَرِضُهُنَّ الرِّجَالُ فَيَتَكَشَّفْنَ، وَيُكَلِّمْنَهُنَّ؛ فَإِذَا تَجَلْبَبَتْ وَتَسَتَّرَتْ كَانَ ذَلِكَ حِجَابًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَعَرِّضِ بِالْكَلَامِ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْإِذَايَةِ، وَقَدْ قِيلَ: وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ الْأَمَةُ إذَا مَرَّتْ تَنَاوَلَهَا الْمُنَافِقُونَ بِالْإِذَايَةِ، فَنَهَى اللَّهُ الْحَرَائِرَ أَنْ يَتَشَبَّهْنَ بِالْإِمَاءِ؛ لِئَلَّا يَلْحَقَهُنَّ مِثْلُ تِلْكَ الْإِذَايَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَضْرِبُ الْإِمَاءَ عَلَى التَّسَتُّرِ وَكَثْرَةِ التَّحَجُّبِ، وَيَقُولُ: أَتَتَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ؟ وَذَلِكَ مِنْ تَرْتِيبِ أَوْضَاعِ الشَّرِيعَةِ بَيِّنٌ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبَهنَّ}.
فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن الجلباب الرداء، قاله ابن مسعود والحسن.
الثاني: أنه القناع؛ قاله ابن جبير.
الثالث: أنه كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، قاله قطرب.
وفي إدناء جلابيبهن عليهن قولان:
أحدهما: أن تشده فوق رأسها وتلقيه فوق خمارها حتى لا ترى ثغرة نحرها، قاله عكرمة.
الثاني: أن تغطي وجهها حتى لا تظهر إلا عينها اليسرى، قاله عَبيدة السلماني.
{ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} فيه وجهان:
أحدهما: ليعرفن من الإماء بالحرية.
الثاني: يعرفن من المتبرجات بالصيانة. قال قتادة: كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالأذى فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء. اهـ.

.قال ابن عطية:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}.
لما كانت عادة العربيات التبذل في معنى الحجبة وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكر فيهن أمر الله تعالى رسوله عليه السلام بأمرهن بإدناء الجلابيب، ليقع سترهن ويبين الفرق بين الحرائر والإماء، فيعرف الحرائر بسترهن فكيف عن معارضتهن من كان غزلًا أو شابًا وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن، فنزلت الآية بسبب ذلك، والجلباب ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء واختلف الناس في صورة إدنائه، وقال ابن عباس أيضًا وقتادة وعبيدة السلماني ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقال ابن عباس أيضًا وقتادة وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه، وقوله تعالى: {ذلك أدنى أن يعرفن} أي على الجملة بالفرق حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عرفن لم يقابلن بأذى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من هي، وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت قنعها الذرة محافظة على زي الحرائر، وباقي الآية ترجية ولطف وحظ على التوبة وتطميع في رحمة الله تعالى، وفيها تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يا أيُّها النبيُّ قل لأزواجك} الآية.
سبب نزولها أن الفُسَّاق كانوا يؤذون النساء إِذا خرجن بالليل، فإذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا: هذه حُرَّة، وإِذا رأوها بغير قناع قالوا: أَمَة، فآذَوها، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
قوله تعالى: {يُدْنِينَ عليهنَّ من جلابيبهنَّ} قال ابن قتيبة: يَلْبَسْنَ الأرْدية.
وقال غيره: يغطِّين رءوسهنّ ووجوهن ليُعلَم أنهنَّ حرائر {ذلك أدنى} أي: أحرى وأقرب {أن يُعْرَفْنَ} أنهنَّ حرائر {فلا يؤذَين}. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} قد مضى الكلام في تفضيل أزواجه واحدة واحدة.
قال قتادة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسع.
خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأمّ حبيبة، وسَوْدة، وأمّ سلمة.
وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرِية.
وواحدة من بني هارون: صفية.
وأما أولاده فكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم أولاد ذكور وإناث.
فالذكور من أولاده: القاسم، أمّه خديجة، وبه كان يُكْنَى صلى الله عليه وسلم، وهو أوّل من مات من أولاده، وعاش سنتين.
وقال عروة: ولدت خديجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم القاسم والطاهر وعبد الله والطيّب.
وقال أبو بكر البرقي: ويقال إن الطاهر هو الطيّب وهو عبد الله.
وإبراهيم أمّه مارِية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي ابن ستة عشر شهرًا، وقيل ثمانية عشر؛ ذكره الدَّارَقُطْنِيّ.
ودفن بالبقيع.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن له مرضعًا تُتِمّ رضاعه في الجنة» وجميع أولاد النبيّ صلى الله عليه وسلم من خديجة سوى إبراهيم.
وكل أولاده ماتوا في حياته غير فاطمة.
وأما الإناث من أولاده فمنهنّ: فاطمة الزهراء بنت خديجة، ولدتها وقريش تبني البيت قبل النبوّة بخمس سنين، وهي أصغر بناته، وتزوّجها عليّ رضي الله عنهما في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وبنى بها في ذي الحجة.